Thursday, April 26, 2018

كيف نفهم حقيقة الدور الإيرانى؟/ فراير 2009- جريدة القاهرة



كيف نفهم حقيقة الدور الإيرانى؟
                                                                         بقلم / سمير الأمير

تناولت فى مقالات سابقة بعض الأفكار التى نشرت فى الجرائد والمجلات الصادرة إبان العدوان الأخير على الشعب الفلسطينى فى غزة، ولم يكن دافعى للكتابة هو دحض ما عبر عنه المثقفون من آراء اختلفت معها ولكن كان يحدونى الأمل فى أن نصل إلى جوهر الحقيقة التى نتناولها من زوايا مختلفة وأن ندرك أنه طالما أن هدفا واحدا يجمعنا فلابد أن نصل إلى ما هو مشترك ومن ثم نسعى للالتفاف حول ما يمكن أن نتفق عليه بحيث تتقارب رؤانا و تشكل تيارا عاما يجد طريقه إلى عقول وقلوب أبناء شعبنا، الأمر الذى أراه مهما وجوهريا لتشكيل وعيا سياسيا بحقائق الصراع فى المنطقة وبالجوانب المختلفة والمتعددة لهذا الصراع ولكننى كنت ألاحظ أن الخلافات الفكرية والمذهبية التى كان من الضرورى أن تشكل ثراء فى رؤيتنا العامة تتحول بالتدريج إلى أدوات لإثارة الفرقة وللدفع بالصراعات الثانوية إلى مقدمة المشهد فتحيل النقاش شجارا والانتقاد اتهاما وبدا أن كل صاحب رؤية مكتفيا بما يقوله وكأنه الحق الذى لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه،  فالبعض يؤكد على أن كل ما حدث فى" غزه "هو من تدبير إيران وسوريا لإحراج مصر والمملكة العربية السعودية سعياً لتقليص دورهما فى المنطقة بل ويحذر من الإيرانيين الذين يصفهم بأحفاد كسرى الحاقدين على الأمة العربية والساعين لبسط نفوذهم عليها بالاتفاق والتآمر مع الولايات المتحدة الأمريكية ويساعدهم طبعاً التصريحات والمقالات الصحفية الهوجاء التى صدرت من طهران بخصوص دولة البحرين وكان آخرها تصريحات "علي اكبر ناطق نوري" رئيس التفتيش العام في مكتب مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، والتى اعتبر فيها أن البحرين جزء من إيران،     وربما يبالغ هؤلاء المثقفون المصريون فيقولون أن ما يبدو على السطح من تهديد أمريكى بضرب إيران ما هو إلا سيناريو سابق التجهيز لخداع العرب البسطاء الذين انطلت عليهم الخدع الإيرانية، والبعض الآخر- ولا أخفى أننى منهم- يرى أن الخطر يكمن فى الهيمنة الأمريكية الراغبة فى فرض شروط الإمبراطورية المنتصرة فى الحرب الباردة على منطقتنا العربية التى تشكل بموقعها فى قلب العالم وبثرواتها ولاسيما النفطية عصب الاقتصاد الرأسمالى العالمى المبنى أساسا على نهب البلاد التى كانت خاضعة له تماما قبل استقلالها النسبى الذى حصلت عليه فى مرحلة تراجع الاستعمار الفرنسى والبريطانى وظهور الاتحاد السوفيتى كقوة مساندة لحركات التحرر الوطنى ولنضال الأمم الفقيرة، تلك الأمم التى استطاعت أن تحافظ على هذا الاستقلال" النسبى" عبر المناورة السياسية إبان فترة الحرب الباردة بين المعسكرين، ومن هنا كنت ومازلت أنظر للحرب الأخيرة على أنها جزء من تلك الرغبة فى تصفية أى محاولة لمقاومة شروط الاندماج فى العالم الجديد بل لم يكن احتلال العراق وسقوط نظام البعث القومى بعد أن استجاب لكل ما فرضه عليه المجتمع الدولى وبعد قبوله بمنطقتى الحظر فى الشمال والجنوب وبتدمير صواريخه بيده إرضاء للنظام الدولى وتجنبا للعدوان الأمريكى، لم يكن ذلك سوى حلقة من حلقات سيناريو إخضاع المنطقة برمتها والقضاء على أى توجه قومى أو اشتراكى أو إسلامى بغض النظر عن اختلافاتنا نحن بخصوص تلك التوجهات، ولذلك أرى أن إيران كدولة كبرى وصاحبة تاريخ عميق وممتد ساهم فى إثراء الحضارة الإنسانية تسعى لمقاومة تلك الهيمنة ليس ادعاء - كما يقول البعض- بقدرتها على هزيمة الولايات المتحدة وإسرائيل ولكن تعبيرا عن الرغبة فى أن تفرض شروطها أيضا لكى تتوافق مع النظام العالمى الجديد بشكل لا يهدد مصالحها ولا خطط التنمية التى تنتهجها وهذا لا يعنى بالضرورة أننى أتفق مع توجهات النظام الإيراني الدينية ولا مع تهديداته لدول الخليج، تلك الدول التى يعتبرها النظام الإيرانى الحلقة الأضعف فى منظومة الهيمنة الأمريكية التى لا تسمح له بالتمدد، ولكنى أيضا لا أغفل عن إدراك حقائق الجغرافيا والتاريخ التى تجعلنا ندرك بالضرورة فضل الحضارة الفارسية على العرب والعالم ومن ثم لا يروق لى تعبير " أحفاد كسرى" الذى استخدمه الأستاذ " مجدى القمنى " فى معرض وصفه لما سماه" أطماع إيران التوسعية" تماما كما أنه لا يروق لى أن يطلق أحد الكتاب الإيرانيين علينا " أحفاد أبى سفيان" أو أبناء " أبى جهل" إذ يعد ذلك استسهالاً يتجاهل حقيقة أن الإيرانيين والعرب أيضا يجب أن يعبروا عن أنفسهم كأبناء للحضارة الإسلامية التى انفتحت على كل حضارات العالم القديم, وإن شئنا فلنتذكر ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام عن سلمان الفارسى " سلمان منا آل البيت"، وفى تقديرى أنه من المنطقى أن نسعى لتطوير الوعى بحقائق الصراع بعيدا عن قضية الشيعة والسنه التى تختصر الوطن فى الطائفة وتلك هى نقطة التماس مع كثير مما قرأته حول الموضوع ولكن من غير المنطقى أيضا أن نتجاهل العدو الحقيقى ونولى الأدبار ممتشقين سيوفنا لطعن أخوتنا لكونهم يختلفون معنا حول وسائل مجابهة الخطر الذى يتهددنا نحن وهم،  فذلك لا يفيد أحد سوى عدونا المشترك، ومن الأمانة  أن نعترف أنه فى غياب التعبير الجيد عن الدور المصرى الرائد والقائد للمنطقة يصبح من الطبيعى أن تسعى إيران وتركيا بل وحتى " قطر" للتمدد.
 قبراير 2009 جريدة القاهرة

- مقلات ما قبل 2011 أوباما – الخطاب الأعور






                                                              بقلم/ سمير الأمير
كنت قد كتبت مقالا مطولا بعنوان "ا إمبراطورية الشر الجديدة" نشرته جريدة القاهرة منذ أكثر من عامين، رصدت فيه تاريخ الولايات المتحدة وتاريخ علاقاتها بالعالم ولا سيما منطقتنا العربية وقد لاحظت أن الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة لا تتغير بتغير الرؤساء و قارنت بين بوش الأب والابن وسياسات كارتر وكلينتون على اعتبار أن الأول والثانى يمثلان أسلوبا فى التعامل مع القضايا الدولية ومع بؤر الصراع مختلفاً عن الأسلوب الذى اتبعه الثالث والرابع، وخلصت إلى أن قبضة كارتر الحريرية لا تختلف عن قبضة بوش الحديدية، وأن الهيمنة والسيطرة والتصرف كإمبراطورية عظمى تحمل رسالة أسمى ينبغى على كل الشعوب أن تنصاع لها وأن تتوافق معها هو أساس سياسة الولايات المتحدة، وقد تأكد لى نفس الموقف حين تابعت خطاب السيد أوباما للعالم الاسلامى والذى اختار القاهرة تحديدا لكى تكون المكان الذى تنطلق منه رسالته، الأمر الذى لا يمثل فى تقديرى أى انعطافا ناحية تأييد القضايا العربية، كما أنه لا يمثل أى تغيير فى السياسة الأمريكية تجاه شعوب تلك المنطقة التى ابتلاها الله بثرواتها وبموقعها فصارت مطمعا لكل الإمبراطوريات الكبرى منذ فجر التاريخ،
    فالسيد أوباما جاء ليتحدث عن النتائج متجاهلا الأسباب وهى تعمية تستدعى الانتباه وتنطوى على ذكاء يتمتع به الرئيس الجديد للولايات المتحدة، هذا الذى جاء به الديموقراطيون وبمساعدة قطاعات كبيرة من الجمهوريين ليس حبا فى قيم الحرية ولكن إنقاذا لهيبة الولايات المتحدة التى أصبحت صورتها بشعة حتى عند أصدقائها وبعد أن بلغ العداء لها حدا يهدد بتقويض تلك الإمبراطورية التى تدعى أنها حارسة الحرية وحقوق الإنسان،
  تحدث أوباما عن الإرهاب دون أدنى إشارة للأسباب التى أدت إليه والتى كانت صناعة أمريكية بامتياز، لأنه من المعروف أن فشل مشاريع السلام بالإضافة إلى الدعم اللا محدود للصلف والعدوان الإسرائيلى هما الركيزتان الأساسيتان اللتان قامت عليهما دعاية الحركات الإسلامية المتطرفة التى بدت للمواطن وكأنها هى الوحيدة المقاومة والمدافعة عن الحقوق العربية، ناهيك عن الدور الأساسى للولايات المتحدة فى دعم الإرهاب المتأسلم كجزء من الحرب الباردة، لقد كان الأولى بأوباما أن يعترف ببشاعة الدور الذى قامت به بلاده فى تهديد السلام وإشعال الحروب وإطلاق عفريت " صراع الحضارات" وتسمية حروبها الأخيرة " الحروب الصليبية الجديدة"

    والدليل الثانى على أن أوباما لم يأت بجديد يختلف عن سياسة الرئيس السابق سوى فى الأسلوب فقط هو موقفه الغريب من الحرب على العراق فقد تبنى فى خطابه نفس موقف اليمين الأمريكى متحدثا عن أن العراق أصبح فى وضع أفضل بعد صدام حسين ولم يعتذر حتى للشعوب الإسلامية عن سقوط ما يناهز المليون عراقى ضحية للحصار الطويل وللحرب التى قال أنها أنقذت العراقيين من الدكتاتورية،  ولكنه تحدث بأسف وحزن عن اندلاع الصراع السنى / الشيعى مرتديا مسوح الرهبان والأبرياء وكأنه يجهل ما تفعله بلاده كل يوم لإذكاء جذوة هذا الصراع،

 وبعد ذلك أكد الرئيس الأمريكى على تعاطفه مع الشعب اليهودى مذكرا بالمحرقة وغرف الغاز ورقم الستة ملايين يهودى الذين راحوا ضحية الاضطهاد النازى، ولعلنا جميعا لاحظنا هذا التأكيد على ذكر الرقم، وكان يمكن أن يكون ذلك طبيعيا لو أنه كرسول للسلام تحدث عن الرقم الذى لا نعرفه لعدد المشردين وللاجئين الفلسطينيين والباكستانيين والأفغان لكى يتأكد لنا أن الرجل جاء ليبشرنا بهذا الانعطاف التاريخى للسياسة الأمريكية ناحية حقوق الشعوب وكرامة الإنسان كما يحلو للقادم الجديد أن يقول، وأيضا لم يتحدث الرئيس أوباما عن الحرب الأخيرة على غزة وعن استخدام إسرائيل الحليف الاستراتيجى للولايات المتحدة لأسلحة محرمة دولياً،  ولم يتألم ضميره لحرب الإبادة التى شنتها إسرائيل وتشنها على الشعب الفلسطينى وعلى الشعوب العربية منذ تأسيسها ولكنه تحدث عن الصواريخ التى تطلق من داخل إسرائيل وتقتل الإسرائيليين، الأمر الذى بدا لى غير مفهوم فهل غزة جزء من إسرائيل؟ لم يتحدث أيضا عن الأسباب التى أدت لتصنيع تلك الصواريخ البائسة، لم يتحدث عن الدور الذى لعبته أمريكا فى حصار قطاع غزة بسب اختياره الديموقراطى لحماس عبر عملية انتخابية كان الرئيس جيمى كارتر من ضمن الذين أشرفوا عليها،

 ولكى لا أكون متحاملا على الرجل ينبغى الاعتراف بأنه يذكرنا بمارتن لوثر كنج ولكن تماما كما تذكرنا الورود الصناعية بزهور الحديقة الطبيعية اليانعة، لأن خطابه الذى حمل نبرة الحرية والإنسانية كان خطاباً أعورا، يفتح إحدى عينيه على حقائق ويغلق الأخرى لكى لا يرى بقية الصورة، أما الموقف من إيران الذى بدا ايجابيا ومختلفا عن المواقف السابقة للولايات المتحدة فينبغى أن نفهمه على حقيقته وهى اعتراف الولايات المتحدة بالدور الذى تلعبه إيران فى المنطقة واعترافها أيضا بالمصالح الإيرانية وباستعدادها للتعاون مع إيران، ولعل النقطة الايجابية أيضاً فى خطاب أوباما هو اعترافه بدور أمريكا فى الانقلاب على حكومة مصدق ولكن كما أسلفت فإنه يجتزئ الأشياء ولا يكملها ومن ثم لا يعترف بدور الولايات المتحدة فى دعم الدكتاتوريات وإسقاط ديموقراطيات أخرى فى بلدان أخرى،
  وأخيرا، أود أن أقول أن أوباما أو غيره هو مجرد رئيس من رؤساء ذهبوا ورؤساء سيأتون ولكن السياسة الأمريكية تكاد فى تقديرى تكون واحدة، ربما تتغير فى أسلوب العلاقات مع الدول الصغيرة فتختفى القطع المحمولة على الأسطول وتعود سياسة التعاون الدولى، لكن النتيجة واحدة والهدف واحد وهو السيطرة والهيمنة وتبعية تلك الدول للإمبراطورية ومن ثم لا تصدقوا كثيرا ما جاء فى خطاب أوباما من أنه يقبل الاختلاف، أو ربما كان هذا موقفه الشخصى ولكن علينا إذن أن نعرف أن المواقف الشخصية للرؤساء الأمريكيين تلعب دورا ضئيلاً فى الخطوط العامة للسياسة الدولية. 


------ يونيه 2009/ جريدة القاهرة

مقالات ما قبل 2011 / الدولة والنظام السياسى- سبتمبر 2009 / جريدة القاهرة



عن الخلط  بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام السياسى
                                                                 بقلم/ سمير الأمير

فى المجتمعات الناضجة والمتطورة تتعدد المدارس السياسية والفكرية ويشكل هذا التعدد ثراء وخصبا وتراكما فى الخبرات يمكن تلك المجتمعات من مواجهة الأزمات التى تنشأ فى مسيرتها نحو التقدم المضطرد وتصبح القدرة على اكتشاف وحل تلك المشكلات وتجاوزها معيارا للحكم على كفاءة الأفراد والجماعات والأحزاب وتعمل كل تلك الجماعات بشكل آمن فلا أحد يجرؤ على التشكيك فى ولائها وانتمائها لبلدانها وذلك لأن هناك وعى عام لدى الجماهير والنخب السياسية بضرورة الفصل نظرياً وعملياً بين الدولة والنظام السياسى فالدولة كيان يشمل الجميع مؤيدين ومعارضين لأنهم جميعا يعيشون فى كنفها وتحت لوائها، أما النظام السياسى فربما يتغير بصعود حزب ما وهبوط حزب آخر،
 غير أن الأمور تبدو مختلفة إلى حد كبير فى بلاد العالم الثالث ولاسيما فى البلاد العربية إذ هناك خلط متعمد وغير متعمد بين الدولة ونظام الحكم وفى الحقيقة يجب الاعتراف بأن ذلك مرجعه ليس فقط لممارسات الحكومات ولكنه يرجع أيضاً لقصر نظر المعارضة ولغياب الوعى السياسى لدى المواطنين، ومن جانبها تعمد الحكومات إلى خلط الأوراق فتتصرف فى الأمور وكأنها هى الدولة متجاهلة لحقيقة أن النظام السياسى يعمل لدى الدولة التى قد تستبدله بنظام آخر إن هو تقاعس أو انحرف عن الأهداف الاستراتيجية العامة للدولة، وهذا الخلط طبعا يمكن الحكومات من اتهام معارضيها بتهمة الخيانة بل تصبح رغبة المعارضين فى الوصول للسلطة لتحقيق برامجهم السياسية والاقتصادية جريمة ضد الدولة نفسها وفى ظل هذا المفهوم الخاطىء يتم استلاب الدولة لصالح النظام السياسى أو حكومة حزب ما فتعمد تلك الحكومة إلى استغلال أجهزة الدولة وتسخيرها فى الدعاية السياسية ( أجهزة الإعلام) وفى القمع والتنكيل بالمعارضين ( أجهزة الأمن) مما يوغر صدر المواطنين فيعتقدون أن الدولة هى التى تقمعهم وبدلا من معارضة النظام السياسى تصبح البطولة هى الخروج على الدولة بأكملها   وهذا ما يهدد "أمن تلك الدولة" ويضعفها ويجعلها لقمة سائغة أمام أعدائها الذين يتربصون بأرضها أو باقتصادها أو بأدمغة مواطنيها وقد أطلق تقرير التنمية الإنسانية العربية فى العام 2004 فى مجمل عرضه لقضية الحرية فى الوطن العربى على الدولة العربية الحديثة مفهوم" دولة الثقب الأسود" حيث شبه سيطرة النظم السياسية على مجمل مؤسسات الدولة بظاهرة الثقب الأسود الفلكية لكون تلك النظم قد حولت المجال السياسى الاجتماعى" إلى ساحة لا يتحرك فيها شىء ولا يفلت من إسارها شىء"
    وفى اعتقادى أن النخب السياسة والثقافية مطالبة- لكونها تعانى أكثر من غيرها من النتائج المباشرة لهذا الخلط المتعمد بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام السياسى، مطالبة بإحداث ذلك القدر من التنوير الذى يؤسس لهذا الفصل فى يقين الحاكمين والمحكومين على حد سواء، لأنه من المستحيل إرساء قواعد الدولة المدنية الحديثة فى ظل وجود هذا الالتباس الذى أدى إلى مصادرة الأفراد للمؤسسات العامة وأفقد تلك المؤسسات استقلالها و هيبتها فى المجتمع، كما أدى وهذا فى اعتقادى هو الأخطر إلى سيطرة العقلية الأمنية فى إدارة تلك المؤسسات مما جعل الولاء والطاعة من أهم شروط الترقى وأدى إلى قمع المبادرة والإبداع وانتشار الفساد لأن محاربته لا تشكل أولية للنظام  السياسىالذى يسعى فقط لحماية وجوده متعامياً عن حقيقة أن هذا الفساد يشكل تقويضاً للمؤسسات العامة للدولة برمتها بما فيها النظام السياسى - قصير النظر- نفسه،
من هنا تنشأ ضرورة التحديد الدقيق للوظائف التى تكلها الدولة لنظام سياسى فى مرحلة ومن ثم تحاسبه عليها كون هذا النظام يعمل عند الدولة وهو أداة من أدواتها وليس العكس ومن ثم تستطيع الدولة عبر مؤسساتها أن تغير هذا النظام بشكل سلمى لا يؤثر على استقرارها ومن هنا تكمن خطورة ما ذكرته آنفاّ من أن مصادرة النظم السياسية للمؤسسات العامة يجعل الدولة والنظام فى نظر الجماهير شيئاً واحدا مما يعرض أمن تلك الدولة للخطر ولذا نندهش نحن فى العالم العربى حين نسمع عن حادثة تحقيق الجهات الأمنية والقضائية مع رئيس وزراء دولة ما أو خضوع "كلينتون" للمساءلة بتهمة الحنث بالقسم أو الكذب! رغم أن ذلك يعد هناك أمراّ طبيعياّ لأن رئيس الوزراء أو حتى رئيس الجمهورية يعمل عند الدولة وليس العكس كما هو حادث فى العالم الثالث إذ تسخر كل المؤسسات للحفاظ على الفرد الذى تعمل فى كنفه وتحت رعايته ولخدمته بغض النظر عن الخلل الذى يصيب المجتمع بأسره نتيجة لغياب الشعور بالأمن والطمأنينة اللذين يمكنان الناس من الإبداع ومن الإيمان بقدرتهم على تجاوز أوضاعهم والانطلاق نحو مستقبل أفضل للأجيال القادمة وبالتالى النمو المضطرد والمتطور فى قدرات الدولة المدنية الحديثة التى يقوم النظام السياسى الوطنى المتسلح بالوعى والقادر على الفصل بين المفاهيم المختلفة برعايته وتدعيمه لسببين:- الأول هو اقتناع الحكومة بأن سلطتها مؤقتة ومرهونة بأصوات الناخبين فى انتخابات تشرف عليها مؤسسات وطنية مستقلة تنتمى للدولة بمجملها ولا تستطيع الحكومة أن تمارس أى تأثير علي عملها والسبب الثانى أن محاولة تزوير تلك الانتخابات أو استخدام أجهزة الدولة للتأثير على نتائجها يجعل النظام السياسى نفسه متهماً بزعزعة استقرار الدولة وتقويض أمنها ويعرضه للمحاكمة،
ربما يبدو كل ما كتبته فى هذا المقال ضرباً من الحرث فى البحر أو الخيال الرومانسى ولكن يعرف مفكرونا ومثقفونا أننا لا يمكن أن ننطلق لنلحق بركب التطور كمجتمعات عربية فى غياب مفهوم الدولة المدنية الحديثة أو دون استكمال المشروع التنويرى الذى توقف نتيجة لأسباب يضيق المجال هنا لمناقشتها،
هل يمكن أن أختم مقالى بتوجيه نداء لكل مفكرينا من كافة الاتجاهات والأحزاب بمن فيهم العقلاء الذين ينتمون للأحزاب الحاكمة فى الوطن العربى لكى نشرع فى استكمال مشروع التنوير الثقافى والسياسى الكفيل بوضعنا على خارطة التقدم وبتحقيق التوازن والتكامل بين حضارتنا والحضارات الإنسانية قبل أن تجهز علينا جحافل الشر التى ما كان لها أن تتمكن من لعق دمائنا ونهب ثرواتنا لولا تراجعنا الفكرى والسياسى.
 -----
سبتمبر 2009- جريدة القاهرة