شىء من الأدب.. كثير من النقد
بقلم/ سمير الأمير
يعتقد كثيرون أن
وظيفة النقد تنحصر فى تقييم الأعمال الأدبية والفنية، أى أنهم يرون أن دور النقد
يلى عملية الإبداع وهم بذلك يختصرون مجمل وظيفته إلى مجرد التعليق على الروايات
والقصائد ولوحات التشكيليين وبذا تصبح وظيفته أشبه بوظيفة المعلق الرياضى فى
مباراة كرة القدم حين ينقل للجمهور انطباعاته على الهواء مباشرة، ولذالك انتقلت
عدوى الأساليب الإذاعية السطحية إلى عملية النقد بالغة الأهمية والجدية فأصبحنا نقرأ
كلاما من نوع" استطاع الشاعر أن يحلق عالياً فى فضاءات الشعر وأن يتجاوزها
إلى فضاءات جديدة" دون أن نفهم ما الذى
فعله الشاعر على وجه التحديد، ناهيك عن الإرهاب الذى تمارسه الكلمات الجديدة
مثل" فضاءات- ورؤيوى- وانعتاق- " وأشياء كثيرة لا أفهم منها شيئا رغم
دراستى للنقد فى الجامعة، ولعل ذلك يبرر لى ولغيرى من المهمومين بالنقد لماذا
ينشغل هؤلاء المعلقون الرياضيون الذين لم تستوعبهم صفحات الرياضة بأعمال ساذجة أو
مفتعلة أو منسوخة من أعمال أخرى أصيلة بعد تشويه ملامحها لكى يسهل تسويقها
كإبداعات أو تسويق كتابها كمبدعين، تماما كما كان يفعل سارقو الحمير حين كانوا
يصبغون الحمار الذى سرقوه ليلا ويبيعونه لصاحبه فى وضح النهار! ، هل أتجاوز حين
أقول أن معظم ما نقرأه من نقد فى الصحف والمجلات السيارة ليس سوى إعادة إنتاج
لمقولات جادة فى غير موضعها لأغراض شخصية؟
، وأن الكتابات النقدية السائدة لا تعدو كونها تلميعاً لعملات زائفة ولكتابات أقل
ما يمكن أن يقال عنها أنها ساهمت فى صرف جمهور القراء عن قراءة الإبداع برمته رديئه
وجيده؟
في ظنى أن النقد لو عاد لوظيفته ولدوره الرائد
في حرث التربة وتهيئة المتلقى لتعرف طلاب الجامعة والمتعلمين عموما على أسماء مهمة
لروائيين وقصاصين كمحسن يونس ومحمد المخزنجى ورضا البهات وأحمد زغلول الشيطى وعزت
القمحاوى و لعرفوا شعراء حقيقيين كمحمد كشيك ومصباح المهدى وسهير متولى وعلى قنديل
و عمر نجم وحمدى عيد ومحمد الشهاوى وفارس خضر وإيهاب البشبيشى وكثيرين، منهم من
قضى نحبه دون أن يضعه النقد في موضعه الذى يستحقه ومنهم من ينتظر لعل الزبد الطافح
على السطح يذهب جفاء ، هذا طبعا بالإضافة
إلى أننا لو أدركنا أن وظيفة النقد الأساسية هى الانشغال بالنص الأهم والأعم وهو
" نص الحياة" لما وجدنا مذيعين وصحفيين لا يعرفون شيئا عن مصطفى مشرفة
وسيد عويس وجمال حمدان، لأن النقد في جوهره هو مشروع فكرى وجمالى يهدف إلى تقييم
الرؤى والأفكار ووضعها في موضعها حسب قربها وبعدها من النظرية الجمالية التى تهدف
إلى إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم وفق تلك النظرية التى تنشأ نتيجة لشروط وظروف
اجتماعية واقتصادية موضوعية كما حدث حين خرجت الرومانسية كرد فعل للصخب والتلوث اللذين
صاحبا الثورة الصناعية لكى تحاول أن تعيد الإنسان لحضن الطبيعة ولإنسانيته، إذ
كانت الهجرة من الريف للمدن بحثاً عن العمل في المصانع قد أدت إلى تكدس البشر فوق
بعضهم في الحوارى الفقيرة ومن ثم كان ما كان من انتشار الجريمة فضلاً عن التشيؤ
والانحلال الأخلاقي الذى جاء كنتاج جانبي لتطور الصناعات من نمطها الحرفى الذى كان
يجمع بين الإنتاج والفن إلى بدايات نمط الإنتاج الكمى الذى يربط الإنسان بالسلعة
ذاتها كمنتج وكمستهلك، ومن هنا يمكن فهم كيف استطاعت أعمال روائية أوربية أن تغير
الأفكار التقليدية عن التربية كما فعلت رواية " جين أير" لشارلوت برونتى
وكيف ساهمت روايات "دى. اتش. لورانس" في إعادة صياغة أفكار المجتمع حول
قضايا هامة كالزواج والأسرة وأيضاً ما
فعلته رواية " القلعة" من التعجيل بإلغاء نظام panel system- في قطاع الصحة والأمثلة كثيرة
لدرجة تستعصى على الحصر لكنها تثبت أن الكتابات الإبداعية والنقدية لم تكن حيثية
للجلوس على المقاهى وأن الكُّتاب كانوا مثقفين عضويين مرتبطين بقضايا حقيقية تمس
جوهر حياة الناس وكانوا مناضلين واجهوا سلطة الكنيسة وتخلفها وتعرضوا بشجاعة
للمؤسسات والأفكار المستقرة بهدف تطويرها أو إلغائها لكى تتحسن وتتقدم ظروف الحياة
لأن الإبداع لم يكن أبدا طوال تاريخه نشاطا من أنشطة أوقات
الفراغ ولم يحدث مثلا أن شاعرا قلل من
أهمية الحياة واعتبر الشعر أكبر وأهم منها كما نسمع بعض شعرائنا وهذا هو السبب في
أن الاهتمام بالأعمال الإبداعية في أوربا لم يضمحل كما هو حادث الآن في المجتمعات
العربية، إن غياب المعايير واختلال النظام
القيمى وتشوه العمارة وانحطاط التفكير وتخلف الفكر السياسى وعودة أنماط التفكير
التى تنتمى للعصور الوسطى على يد تيار الإسلام السياسى وبمساعدة غير مباشرة من المثقفين المنعزلين عن القضايا
الجوهرية لشعوبهم والمسكونين بهاجس انتهاك التابوهات الدينية والدينية فقط رغم أن
بعضهم لا يجرؤ على مجرد التعبير عن وجهة نظره أمام رئيسه في العمل!، ومن قبل كل ذلك الخلل الاجتماعى الذى كان نتيجة تشوه علاقات
الإنتاج، ثم الانفتاح غير المنضبط والفساد والنهب كل ذلك لم يكن ليحدث ولم يكن
ليتم التسليم والقبول به بتلك السهولة لولا غياب التفكير النقدى وافتقار العقلية
العربية بوضعها الحالي لمقومات ومعايير الحكم على الأفكار والسياسات، لأنه في غياب
النقد بمعناه الجمالى العام تختلط الأشياء فيصبح الباطل حقا والحق باطلا وتنمحى
ذاكرة الوجدان و يغيب العقل،
هل أؤكد مرة أخرى أن أمة بلا تفكير نقدى لا تعلم
أين تسير؟ ولا كيف تسير؟ ولا ماذا تريد ؟ ولا منهم أعداؤها ومن هم أصدقاؤها؟ ولا لماذا
وكيف تعلم أبناءها؟ ولا ما هى الرواية الجيدة التى ينبغى تسليط الضوء عليها ومن هو
الشاعر الذى يثرى وجدان أمته ويجب أن يقرأه الناس؟ و ما هى الأفكار التى يجب
تجاوزها أو دحضها والأفكار التى يجب دعمها ونشرها ؟ وجدير بالذكر أن كتابات
الدكتور جلال أمين بمقاربتها السسيولجية
التى تتعامل مع الواقع كنص عام هى كتابات دالة وموحية في هذا السياق كونها
تؤكد على إننا بحاجة لنقاد حقيقيين وكتابات نقدية- في الفكر والفن- تقدم قراءة لوقائع حياة المصريين وتصف مصر وصفاً
تشخيصياً وتطرح حلولاً تعيد لنا فضائلنا و
ذاكرة وطننا وتكنس تلك الكتابات الرديئة والأفلام الهابطة والموسيقى الصاخبة
الغريبة التى تلوث آذاننا وتسلبنا ثقافتنا الوطنية ، وقبل كل ذلك نحن بحاجة لغرس
جذور التفكير النقدى الجاد لكى يعود المدرس مدرسا والطبيب طبيبا والأديب أديبا
وتعود مصر إلى مصر لأننا بصدق أصبحنا نفتقدها بشدة وكذلك نفتقد أدوارنا داخل النَص
الذى تكتب من أجله كل النصوص " نَص الحياة والوطن".