Thursday, April 26, 2018

مقالات ما قبل 2011 / الدولة والنظام السياسى- سبتمبر 2009 / جريدة القاهرة



عن الخلط  بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام السياسى
                                                                 بقلم/ سمير الأمير

فى المجتمعات الناضجة والمتطورة تتعدد المدارس السياسية والفكرية ويشكل هذا التعدد ثراء وخصبا وتراكما فى الخبرات يمكن تلك المجتمعات من مواجهة الأزمات التى تنشأ فى مسيرتها نحو التقدم المضطرد وتصبح القدرة على اكتشاف وحل تلك المشكلات وتجاوزها معيارا للحكم على كفاءة الأفراد والجماعات والأحزاب وتعمل كل تلك الجماعات بشكل آمن فلا أحد يجرؤ على التشكيك فى ولائها وانتمائها لبلدانها وذلك لأن هناك وعى عام لدى الجماهير والنخب السياسية بضرورة الفصل نظرياً وعملياً بين الدولة والنظام السياسى فالدولة كيان يشمل الجميع مؤيدين ومعارضين لأنهم جميعا يعيشون فى كنفها وتحت لوائها، أما النظام السياسى فربما يتغير بصعود حزب ما وهبوط حزب آخر،
 غير أن الأمور تبدو مختلفة إلى حد كبير فى بلاد العالم الثالث ولاسيما فى البلاد العربية إذ هناك خلط متعمد وغير متعمد بين الدولة ونظام الحكم وفى الحقيقة يجب الاعتراف بأن ذلك مرجعه ليس فقط لممارسات الحكومات ولكنه يرجع أيضاً لقصر نظر المعارضة ولغياب الوعى السياسى لدى المواطنين، ومن جانبها تعمد الحكومات إلى خلط الأوراق فتتصرف فى الأمور وكأنها هى الدولة متجاهلة لحقيقة أن النظام السياسى يعمل لدى الدولة التى قد تستبدله بنظام آخر إن هو تقاعس أو انحرف عن الأهداف الاستراتيجية العامة للدولة، وهذا الخلط طبعا يمكن الحكومات من اتهام معارضيها بتهمة الخيانة بل تصبح رغبة المعارضين فى الوصول للسلطة لتحقيق برامجهم السياسية والاقتصادية جريمة ضد الدولة نفسها وفى ظل هذا المفهوم الخاطىء يتم استلاب الدولة لصالح النظام السياسى أو حكومة حزب ما فتعمد تلك الحكومة إلى استغلال أجهزة الدولة وتسخيرها فى الدعاية السياسية ( أجهزة الإعلام) وفى القمع والتنكيل بالمعارضين ( أجهزة الأمن) مما يوغر صدر المواطنين فيعتقدون أن الدولة هى التى تقمعهم وبدلا من معارضة النظام السياسى تصبح البطولة هى الخروج على الدولة بأكملها   وهذا ما يهدد "أمن تلك الدولة" ويضعفها ويجعلها لقمة سائغة أمام أعدائها الذين يتربصون بأرضها أو باقتصادها أو بأدمغة مواطنيها وقد أطلق تقرير التنمية الإنسانية العربية فى العام 2004 فى مجمل عرضه لقضية الحرية فى الوطن العربى على الدولة العربية الحديثة مفهوم" دولة الثقب الأسود" حيث شبه سيطرة النظم السياسية على مجمل مؤسسات الدولة بظاهرة الثقب الأسود الفلكية لكون تلك النظم قد حولت المجال السياسى الاجتماعى" إلى ساحة لا يتحرك فيها شىء ولا يفلت من إسارها شىء"
    وفى اعتقادى أن النخب السياسة والثقافية مطالبة- لكونها تعانى أكثر من غيرها من النتائج المباشرة لهذا الخلط المتعمد بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام السياسى، مطالبة بإحداث ذلك القدر من التنوير الذى يؤسس لهذا الفصل فى يقين الحاكمين والمحكومين على حد سواء، لأنه من المستحيل إرساء قواعد الدولة المدنية الحديثة فى ظل وجود هذا الالتباس الذى أدى إلى مصادرة الأفراد للمؤسسات العامة وأفقد تلك المؤسسات استقلالها و هيبتها فى المجتمع، كما أدى وهذا فى اعتقادى هو الأخطر إلى سيطرة العقلية الأمنية فى إدارة تلك المؤسسات مما جعل الولاء والطاعة من أهم شروط الترقى وأدى إلى قمع المبادرة والإبداع وانتشار الفساد لأن محاربته لا تشكل أولية للنظام  السياسىالذى يسعى فقط لحماية وجوده متعامياً عن حقيقة أن هذا الفساد يشكل تقويضاً للمؤسسات العامة للدولة برمتها بما فيها النظام السياسى - قصير النظر- نفسه،
من هنا تنشأ ضرورة التحديد الدقيق للوظائف التى تكلها الدولة لنظام سياسى فى مرحلة ومن ثم تحاسبه عليها كون هذا النظام يعمل عند الدولة وهو أداة من أدواتها وليس العكس ومن ثم تستطيع الدولة عبر مؤسساتها أن تغير هذا النظام بشكل سلمى لا يؤثر على استقرارها ومن هنا تكمن خطورة ما ذكرته آنفاّ من أن مصادرة النظم السياسية للمؤسسات العامة يجعل الدولة والنظام فى نظر الجماهير شيئاً واحدا مما يعرض أمن تلك الدولة للخطر ولذا نندهش نحن فى العالم العربى حين نسمع عن حادثة تحقيق الجهات الأمنية والقضائية مع رئيس وزراء دولة ما أو خضوع "كلينتون" للمساءلة بتهمة الحنث بالقسم أو الكذب! رغم أن ذلك يعد هناك أمراّ طبيعياّ لأن رئيس الوزراء أو حتى رئيس الجمهورية يعمل عند الدولة وليس العكس كما هو حادث فى العالم الثالث إذ تسخر كل المؤسسات للحفاظ على الفرد الذى تعمل فى كنفه وتحت رعايته ولخدمته بغض النظر عن الخلل الذى يصيب المجتمع بأسره نتيجة لغياب الشعور بالأمن والطمأنينة اللذين يمكنان الناس من الإبداع ومن الإيمان بقدرتهم على تجاوز أوضاعهم والانطلاق نحو مستقبل أفضل للأجيال القادمة وبالتالى النمو المضطرد والمتطور فى قدرات الدولة المدنية الحديثة التى يقوم النظام السياسى الوطنى المتسلح بالوعى والقادر على الفصل بين المفاهيم المختلفة برعايته وتدعيمه لسببين:- الأول هو اقتناع الحكومة بأن سلطتها مؤقتة ومرهونة بأصوات الناخبين فى انتخابات تشرف عليها مؤسسات وطنية مستقلة تنتمى للدولة بمجملها ولا تستطيع الحكومة أن تمارس أى تأثير علي عملها والسبب الثانى أن محاولة تزوير تلك الانتخابات أو استخدام أجهزة الدولة للتأثير على نتائجها يجعل النظام السياسى نفسه متهماً بزعزعة استقرار الدولة وتقويض أمنها ويعرضه للمحاكمة،
ربما يبدو كل ما كتبته فى هذا المقال ضرباً من الحرث فى البحر أو الخيال الرومانسى ولكن يعرف مفكرونا ومثقفونا أننا لا يمكن أن ننطلق لنلحق بركب التطور كمجتمعات عربية فى غياب مفهوم الدولة المدنية الحديثة أو دون استكمال المشروع التنويرى الذى توقف نتيجة لأسباب يضيق المجال هنا لمناقشتها،
هل يمكن أن أختم مقالى بتوجيه نداء لكل مفكرينا من كافة الاتجاهات والأحزاب بمن فيهم العقلاء الذين ينتمون للأحزاب الحاكمة فى الوطن العربى لكى نشرع فى استكمال مشروع التنوير الثقافى والسياسى الكفيل بوضعنا على خارطة التقدم وبتحقيق التوازن والتكامل بين حضارتنا والحضارات الإنسانية قبل أن تجهز علينا جحافل الشر التى ما كان لها أن تتمكن من لعق دمائنا ونهب ثرواتنا لولا تراجعنا الفكرى والسياسى.
 -----
سبتمبر 2009- جريدة القاهرة
        





No comments: